بقلم : بدر علي قمبر - صحيفة الوطن
23-05-14 10:35
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».
أحتار من أي فصل أكتب، وتحتار حروفي من أي سطر تبدأ، أحتار على أي لوحة أرسم، وهل تسعفني الظروف أن أرسم؟ أحتار كيف أصيغ قصة روتها حوادث الأيام، كيف أعبر عن حب رسمته أنامل فنان، يا الله، تمر أيام الدنيا سريعاً، تمر اللحظات دون أن ندركها، مفاجآت وحوادث متتالية، كل شيء يمر بسرعة، نتأمل لحظة، ولكن اللحظة الأخرى تدركنا لتفرض وجود التأمل الآخر في دنيا فانية، دنيا عجيبة بفصولها، قصيرة بأيامها، في كل لحظاتها عظة تتذكرها طوال حياتك، لك في كل سوانحها أمل يتجدد في كل حين، حتى وإن هجمت عليك قسراً أحوال الدهر وأحزان الدنيا، فإنك ستظل ذلك «الأمل الساطع» المتجدد في حياة الآخرين.
احترت بالفعل أن أكتب حروف رثاء والدي الحبيب علي قمبر، الذي رحل عن دنيانا إلى رحمة الله ورضوانه، رحل وترك في حياتنا الأثر الكبير، وفي مساحات نفوسنا ثغرة كبيرة نسأل الله تعالى أن يعيننا عليها أبدًا ما حيينا، رحل والدي الحبيب بعد رحيل والدتي الحبيبة بأربع سنوات، ليتركا في نفوسنا ونفوس كل من أحبهما الجرح الغائر الذي سيظل فترة من الزمن ينزف حزناً على فراقهما وفراق ابتسامتهما ومكانهما الذي لايزال نتأملهما هنا وهناك، رحلا وتركا مكانهما في البيت العود يحكي قصة خير وسخاء وكرم ومحبة، يحكي قصة خير نقشت حروفه يد الأيام على كل قلب عاصر أفراحهما وآلامهما.
ترك والدي الحبيب سمعة ولا أروع في قلوب كل من عاصره وعرفه، فقد قضى ما يقارب 40 عامًا في خدمة التربية والتعليم، وعاصر العديد من الأجيال ممن وقفوا معه في ميدان التعليم، وممن أشرف على تدريسهم، وممن عاصروه كمدير للمدرسة، كل أولئك وغيرهم مازالوا يتذكرون بصماته وتربيته وابتسامته، مازالوا يتأملون تلك الصور التي التقطها معهم في رحلات ولقاءات مدرسية، كلهم سارعوا ليشاركوا في مراسم تشييع جناته، سارعوا ليروي كل واحد منهم قصة حب وتقدير واحترام لرجل من رجالات التعليم في بلدنا الحبيب، حتى رفاقه من المرضى وممن لا يستطيعون الحراك، أصروا بأن يكونوا من المعزين لأهله وأحبابه، وفاء برجل ترك في قلوبهم أجمل الأثر، لرجل أحبهم وأحبوه، وسكبوا الدمع حزناً على فراقه.
وفي مقابل التعليم قضى والدي الحبيب ما لا يقل عن 30 سنة في إمامة مسجد المعاودة بالمحرق، عندما تأملت العبارات المكتوبة في حسابات الانستغرام تحت صور والدي، وأسمع تلك العبارات من أولئك الذين حضروا لتعزيتنا، أيقنت بأن المرء لا يترك في دنيا البشر إلا الأثر الطيب والصدقة الجارية، فوالدي يغدو للمسجد في الفجر قبل ساعة أو ساعتين ليصلي ما كتب له ويقبل على قراءة كتاب الله، وصوته المميز في قراءة القرآن جذب العديد من المصلين ليصلوا خلفه وبخاصة صلاة التراويح في رمضان، ثم جلساته العصرية في صالة البيت يترنم بالآيات البينات.
رحل والدي الحبيب بعد أن كابد تعب السنين، وبذل الكثير من أجل أن يبزغ نجم فلذات كبده في المجتمع، ومن أجل أن يعيشوا عيشة هنية، رحل بعد أن ارتسمت على تجاعيد وجهه تعب السنين، ثم مضى إلى ربه مرتاح البال، وكأني أقرأ على تقاسيم وجهه بعد موته: «هذا ما قدمته لكم في دنيا البشر، فسيروا في ركب طاعة الرحمن ورضوانه»، رحل الوالد الذي أترقب كلما دخلت «البيت العود» تقبيل رأسه وأنامله من أجل أن أحظى برضاه، رحل والدي الحبيب ورحلت ابتسامته وأحاديثه الشيقة التي يبادلنا بها كلما جلسنا معه في البيت الذي احتضننا وربانا.
أما أنتم إخوتي الأحباب الكبار، فمحبتي معكم ليست وليدة الساعة، بل هي امتداد حياة جميلة عشناها في البيت العود، في بيت جمعنا منذ الصغر، ولنا في كل مساحاته ذكريات حلوة وجميلة، اليوم هي مرحلة جديدة، رحل من فصولها الأم الحنون، والأب الغالي، رحلا ليتركا في قلوبنا محبة غامرة بالود والحب والعطاء، اليوم نحتاج كما هي وصية الكبار بأن تكون قلوبنا مترابطة كالقلب النابض، نجمع الأبناء في دوحة حلوة جميلة عامرة بالخير والحب، نتعامل بالحب، ونعيش بالحب، معاً من أجل أن نبني أجمل عائلة تتوارثها الأجيال، ثم نلتقي فيما بعد في الفردوس الأعلى مع أحبابنا ومع والدينا رحمهما الله، لنعلم أبناء المستقبل بأن الحب وألفة القلوب هي الباقية في نفوس الأجيال، لنعلمهم بأن يضعوا الآباء والأمهات في عيونهم، فهم كنز ثمين في دنيا البشر.
اللهم اغفر لوالدينا وارض عنهما واجمعنا بهما في مستقر رحمتك، اللهم اغفر لهما مغفرة جامعة، وجازهما عنا خير الجزاء، وتجاوز عن تقصيرنا في برهما وهما أحياء، وأعنا على برهما بعد مماتهما أضعاف ما كانوا يبروننا في صغرنا، آمين.